في غياهب زمنٍ سحيق، على ثرى أرض بني إسرائيل التي لوّحتها الشمس ونسجت الرياح على رمالها حكايات الأنبياء والصالحين، عاشت ثلاث أرواح معذبة، ثلاثة رجال طبع القدر على جباههم ندوبًا من البلاء. لم تكن أسماؤهم مهمة، فقد طغت ألقابهم على كل شيء آخر، ألقابٌ كانت كالأغلال تقيدهم في سجن من نظرات الناس وهمساتهم.
كان الأول هو "الأبرص". جسدٌ حيٌّ يسكن قبرًا من لحمٍ متآكل. كانت بشرته خريطةً للألم، بقعٌ بيضاء شاحبة تتناثر فوقها قشورٌ فضية، تنفر منه العيون السليمة، وتتجنبه الأيادي خوفًا من عدوى موهومة. كان عزلته مضاعفة؛ عزلة المرض، وعزلة الخوف الذي يبنيه الناس حوله كجدار لا يُخترق. حلمه الوحيد لم يكن الثراء أو الجاه، بل كان أمنية بسيطة كقطرة ندى: أن يلمس جلده فيشعر بالنعومة بدل الخشونة، أن يرى في عيون الناس نظرة طبيعية بدل الاشمئزاز.
وعلى مقربة من عزلته، عاش "الأقرع". كانت رأسه جرداء كصخرة قاحلة في صحراء مترامية. تسخر منه شمس الظهيرة الحارقة، وتجعله أضحوكة للأطفال، وهمزة وصل بين النساء. كان يخفي رأسه تحت قطعة قماش بالية، لا تقيه من الحر بقدر ما تقيه من سهام النظرات الجارحة. كانت أمنيته خصلة شعر واحدة، خصلة تنبت كبرعم أخضر في أرض ميتة، تعيد إليه بعضًا من كرامته المهدورة.
أما الثالث، فكان "الأعمى". عالمه لم يكن إلا ليلًا سرمديًا، سجادة سوداء لا تتغير، لا يعرف من الدنيا إلا ما تلمسه يداه أو ما تسمعه أذناه. كان يحفظ ملامح الوجوه بأصابعه، ويعرف تقلب الفصول من رائحة الهواء. كان الشوق إلى رؤية لون السماء، أو ابتسامة عابر، أو دمعة أم، ينهش روحه في صمت. أمنيته كانت شعاعًا واحدًا من نور، نافذة صغيرة يطل منها على عالم حرم منه منذ ولادته.
وفي يومٍ لا يشبه الأيام، يومٌ أراد فيه الخالق أن يقلب موازين الأقدار، نزل أمرٌ من السماء. لم يكن اختبارًا للقوة، بل اختبارًا للقلوب. هبط مَلَكٌ كريم في هيئة رجل عادي، رجل لا يثير الشك، وبدأ رحلته إلى تلك الأرواح المعذبة.
فصل النور
كانت الشمس ترسل خيوطها الأولى على كوخ الأبرص المنعزل حين طرق الباب طارق. تردد الأبرص، فمن ذا الذي يقصده؟ لكنه فتح الباب ليجد رجلًا وديع الملامح، لا يظهر على وجهه أي أثر للنفور.
سأله الزائر بصوتٍ هادئ يحمل في طياته لحنًا سماويًا: "أي شيء أحب إليك؟"
لم يصدق الأبرص أذنيه. هل يسأله أحد عن أمنيته؟ انهمرت الكلمات من فمه كشلالٍ محبوس: "لونٌ حسن... وجلدٌ حسن... لقد قذرني الناس". كانت كلماته تحمل مرارة سنين من العزلة.
ابتسم الزائر، ومد يده ومسح بها على جسده. كانت لمسةً لا تشبه لمسات البشر، لمسة باردة كالثلج ودافئة كالشمس في آنٍ واحد. وفي طرفة عين، شعر الأبرص بشيء عجيب يسري في عروقه. نظر إلى ذراعيه، فرأى الجلد المريض ينسلخ كما تنسلخ الحية عن ثوبها القديم، ليظهر تحته جلدٌ نقي، أملس، بلون حنطي صحي. تحسس وجهه، فلم يجد أثرًا لبقعة واحدة. بكى... بكى فرحًا وحرية.
وقبل أن يستوعب المعجزة، سأله الزائر مرة أخرى: "فأي المال أحب إليك؟"
قال دون تردد، وقد شعر بالقوة والثقة لأول مرة: "الإبل".
فأشار الزائر إلى الفضاء الخالي، وإذا بناقة عظيمة، عشرّاء (حامل في شهرها العاشر)، ماثلة أمامه. وقال له: "بارك الله لك فيها". ثم اختفى كما ظهر.
مضى الزائر إلى كوخ الأقرع، ووجد قلبه محترقًا بنفس الشوق. طرح عليه السؤال ذاته، فجاء الجواب محملاً بالأسى: "شعرٌ حسن... ويذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس به". فمسح الزائر على رأسه الجرداء، وفي الحال، نبت شعرٌ أسودٌ كثيفٌ، ناعم كالحرير. مرر الرجل يده بين خصلاته، وهو يرتجف من فرط الدهشة.
وسأله الزائر عن أحب الأموال إليه، فقال: "البقر". فإذا ببقرة حامل تقف أمامه. "بارك الله لك فيها"، قال الزائر ومضى.
وأخيرًا، وصل إلى الأعمى الجالس في عتمته الأبدية. "أي شيء أحب إليك؟"
لم يطلب الأعمى جمالًا أو مالًا، بل طلب ما هو أثمن من كل كنوز الأرض. قال بصوتٍ يملؤه اليقين: "أن يرد الله إليَّ بصري، فأبصر به الناس". فمسح الزائر على عينيه، وفي تلك اللحظة، انقشع الظلام. رأى... رأى النور لأول مرة. رأى وجه الزائر أمامه، وتفاصيل كوخه، وألوان الشجر والسماء. كانت صدمة النور أقوى من أي شيء تخيله. خرّ ساجدًا والدموع تغسل عينيه المبصرتين.
سأله الزائر عن المال، فقال شاكرًا: "الغنم". فأعطاه شاة والدًا (على وشك الولادة)، وبارك له فيها، وانصرف.
فصل الغرور
مرت السنون كمرور السحاب في السماء. تكاثرت الناقة والبقرة والشاة، حتى أصبح لكل رجلٍ من الثلاثة وادٍ كامل يضج بالحياة. الأبرص السابق أصبح سيد وادٍ من الإبل لا يرى طرفاه. والأقرع السابق ملك وادٍ من البقر لا يحصى له عدد. والأعمى السابق رعَى واديًا من الغنم يغطي سفوح التلال.
تبدلت أحوالهم، ومعها بدأت تتبدل قلوب اثنين منهم. نسيا الأيام الخوالي، أيام الذل والمرض، وبنوا حول أنفسهم قصورًا من الثروة والنسيان.
وذات يوم، عاد المَلَك... لكن هذه المرة، جاء في هيئة أخرى. تجسد في صورة رجل فقير، مسكين، أنهكه السفر، ثيابه رثة، ووجهه يروي قصة الحاجة والجوع.
قصد الرجل الذي كان أبرص. وجده في أبهى حلة، يتفقد إبله الفارهة.
قال له المَلَك بصوتٍ ضعيف: "رجل مسكين، وابن سبيل، انقطعت بي السبل في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن، والمال الوفير، بعيرًا واحدًا أتبلغ به في سفري".
نظر إليه السيد الغني نظرة فوقية، مليئة بالازدراء. لقد ذكّره هذا الفقير بماضٍ يريد أن يدفنه. قال ببرود: "الحقوق كثيرة". وكأنه يقول: لست أول المحتاجين ولن تكون آخرهم، وأموالي ليست سبيلًا لكل عابر.
حدّق فيه المَلَك وقال بنبرة تحمل وميضًا من المعرفة: "كأني أعرفك... ألم تكن أبرص يقذرك الناس؟ فقيرًا فأغناك الله؟"
انتفض الرجل، واحمر وجهه غضبًا وكبرياءً. كيف يجرؤ هذا الشحاذ على تذكيره بذلك العار؟ صاح فيه: "كلا! لقد ورثت هذا المال كابرًا عن كابر!". لقد كذب، وتنكر للنعمة، ونسب الفضل لنفسه ولأجداده الوهميين.
عندها، نظر إليه المَلَك نظرة أخيرة، نظرة لم تكن تحمل غضبًا، بل حزنًا عميقًا، وقال بهدوء مخيف: "إن كنت كاذبًا، فصيّرك الله إلى ما كنت".
وذهب إلى الذي كان أقرع، فوجده في عزه وغروره. فطرح عليه نفس السؤال، وذكّره بنفس النعمة. فجاء الجواب مطابقًا، نسخة من الجحود والكبرياء: "الحقوق كثيرة... ورثته عن آبائي". فقال له المَلَك كلمته القاضية: "إن كنت كاذبًا، فصيّرك الله إلى ما كنت".
فصل الوفاء
وأخيرًا، وصل المَلَك إلى وادي الغنم. وجد الرجل الذي كان أعمى جالسًا في تواضع بين غنمه، يشكر الله على نعمة البصر التي يرى بها خلقه.
اقترب منه المَلَك بنفس هيئته البائسة وقال: "رجل مسكين وابن سبيل... أسألك بالذي رد عليك بصرك شاةً أتبلغ بها في سفري".
ما إن سمع الرجل ذكر نعمة البصر، حتى اهتز قلبه، وعادت إليه صورة ذلك اليوم، يوم انقشع الظلام. نظر إلى الفقير أمامه، ليس بعين الشك، بل بعين الرحمة والامتنان.
قال بصوتٍ دافئ صادق: "قد كنتُ أعمى فردّ الله بصري، وكنتُ فقيرًا فأغناني... فخذ ما شئت، ودع ما شئت. فوالله، لا أجهدك اليوم بشيءٍ أخذته لله". لم يمنّ عليه بشاة واحدة، بل فتح له الوادي كله، ليأخذ ما يشاء دون حساب أو سؤال، معترفًا أن المال كله لله الذي أعطاه إياه.
في تلك اللحظة، تغيرت ملامح الفقير، وعاد المَلَك إلى صورته النورانية، وقال للرجل الصالح: "أمسك عليك مالك. فإنما ابتُليتم. فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك".
لقد نجح في الاختبار ليس لأنه أعطى، بل لأنه تذكّر. تذكّر من كان، فعرف فضل من أعطاه. أما الآخران، فقد غرقا في بحر النعمة، حتى نسيا الشاطئ الذي انطلقا منه، فكان مصيرهم الغرق في جحودهم، والعودة إلى سجونهم الأولى... سجون الجسد، وسجون الروح.