كلام الليل الذي لا يمحوه النهار
كان الليل في بغداد قد أرخى سدوله الحريرية على مدينة السلام، ليلٌ لا يشبه ليالينا. ليلٌ معطر بالعود والمسك، تتلألأ فيه النجوم كجواهر منثورة على قطيفة سوداء، وتتردد في أرجائه أصداء ضحكات بعيدة وهمسات خافتة. في هذا الليل، كان أمير المؤمنين، هارون الرشيد، يجوب أروقة قصره وحيدًا. لم يكن يبحث عن شيء بعينه، بل كان يهرب من ثقل التاج وصخب النهار. قادته قدماه المتعبة من أعباء الحكم إلى جناح مهجور من روحه، جناح كان يومًا ما ينبض بالحياة، جناح جاريته التي هجرها منذ شهور حتى كاد يطويها النسيان.
وهناك، في منتصف الرواق الممتد، رآها.
لم تكن تلك الجارية المنكسرة التي تركها خلفه. كانت طيفًا من ضوء القمر والخمر. ترنحت بخفة، لا من ضعف، بل من دلال زادته السُّكْرَى بهاءً. يتمايل جسدها الممشوق تحت مطرفٍ من حرير الخز الفاخر، الذي انساب عن كتفيها كشلالٍ من نسيج الضوء، كاشفًا عن بشرة بيضاء نقية تتوهج تحت ضوء القناديل. كانت الريح، وكأنها شريك متواطئ في هذه اللوحة، تتلاعب بأذيال ثوبها وتكشف عن نهديها المستديرين كرمانتين يانعتين، وتُبرز ردفين ثقيلين يهتزان مع كل خطوة كأنهما قصيدة موزونة.
تحرك شيء في صدر الرشيد، غريزة قديمة، شهوةٌ أيقظتها هذه الرؤية المباغتة. اقترب منها، وصوته، الذي تهتز له أركان الدولة، خرج همسًا مبحوحًا: "هلمّي إليّ الليلة".
رفعت رأسها ببطء، وفي عينيها بريقٌ مزدوج: بريق الخمر، وبريق ذكاء لم تطفئه السنون ولا الهجر. نظرت إليه، لا نظرة الخائفة أو المشتاقة، بل نظرة الند للند. ثم قالت بصوتٍ ناعمٍ كالحرير، حازمٍ كحد السيف: "يا أمير المؤمنين، أيقظتني من سبات الهجر هذه الليلة، وما أنا بمستعدة للقائك كما يليق بمقامك. أمهلني إلى الغد، لأتهيأ لك، وآتيك عروسًا تسر الناظرين".
كلماتها كانت بلسمًا وعلقمًا في آنٍ واحد. فيها وعدٌ بالوصل، وفيها تأجيلٌ يذكي نار الشوق. رضخ الخليفة، ومضى ليلته يتقلب على جمر الانتظار.
وفي الصباح، كان أول أمرٍ يصدره الرشيد لحاجبه: "لا يدخلنّ عليّ اليوم أحد، إلا هي!". وجلس على عرشه، لا كخليفة ينتظر وزراءه، بل كرجلٍ ينتظر موعد غرام. مرت الساعة تلو الساعة، والشمس ترتفع في كبد السماء، وهي لم تأتِ. نفد صبره، فقام بنفسه، ومشى بخطى سريعة إلى جناحها، غاضبًا، مشتاقًا، حائرًا.
وجدها جالسة في بهو غرفتها، بكامل وعيها ووقارها، كأن ليلة الأمس لم تكن. سألها بصوتٍ يشي بخيبة الأمل: "أين الوفاء بالوعد؟"
نظرت إليه بهدوء، ثم ابتسمت ابتسامة خفيفة زعزعت ثقة الخليفة بنفسه، وقالت جملتها التي أصبحت مثلاً تتناقله الركبان: "يا أمير المؤمنين، كلام الليل يمحوه النهار".
تجمد الرشيد في مكانه. لم تكن صفعة، بل كانت درساً في الكبرياء والدهاء. لم يغضب، بل أُعجب. أُعجب بقوتها، بذكائها، بجرأتها على ترويض الخليفة نفسه. عاد إلى مجلسه، وضحكة مكتومة ترتسم على شفتيه، واستدعى شعراءه فورًا.
دخل عليه الرقاشي، وأبو مصعب، وأبو نواس. نظر إليهم الرشيد وقال: "ليقل كل واحد منكم شعرًا في هذا المعنى: كلام الليل يمحوه النهار".
كانت تلك الشرارة التي أشعلت قريحة الشعراء، فتباروا في وصف الهجر والصدود، لكنهم جميعًا كانوا يحومون حول المعنى، يلامسونه ولا يغوصون فيه. حتى جاء دور أبي نواس. وقف الشاعر الذي يبدو كأنه يرى ما لا يراه الآخرون، وبدأ ينسج بكلماته المشهد الذي لم يحضره إلا الخليفة. وصف الجارية السكرى، والثوب المنسدل، والريح التي داعبت جسدها، والوعد الضائع. كل بيتٍ من شعره كان كضربة من ريشة رسام يعيد رسم الليلة الماضية بدقة مذهلة.
وحين ختم بقوله: "فقلتُ: الوعدَ سيدتي، فقالتْ: كلامُ الليلِ يمحوهُ النهارُ"، صاح الرشيد، وقد اختلطت الدهشة بالغضب المصطنع: "قاتلك الله! كأنك كنت ثالثنا، أو مطلعًا علينا من وراء ستار!".
في تلك اللحظة، لم يكن أبو نواس مجرد شاعر، بل كان ساحرًا استرق السمع من ذاكرة الخليفة نفسها. وفهم الجميع لماذا نال أبو نواس ضعف ما ناله الآخرون من ذهب، فقد أثبت أن الشعر ليس مجرد نظمٍ للكلام، بل هو عينٌ ترى ما وراء الحُجُب.