دعني أُسدل عليك ستار الزمن، وأحملك على بساط الكلمات إلى قرطبة، درة الدنيا، في زمن كانت فيه الأندلس لحنًا خالدًا يعزفه التاريخ. لا قرطبة الخلافة الموحدة الشامخة، بل قرطبة الملوك والطوائف، حيث السيوف تتخاصر والمؤامرات تُحاك في ظلال القصور، وحيث الشعر والحب يزهران كشقائق النعمان بين الصخور.
في هذا الجو المشحون بالعطر والدم، وُلد هو، أبو الوليد أحمد بن زيدون. لم يكن مجرد رجل، بل كان قصيدة تمشي على قدمين. ورث عن أبيه الفقه، لكن روحه كانت معلقة بأوتار البيان وسحر الكلمة. كان حضوره يملأ المجالس، وكلماته، نثرًا كانت أم شعرًا، تسلب الألباب وتأسر القلوب. كان شابًا وسيمًا، طموحًا، يرى في نفسه القدرة على امتلاك الدنيا، أو على الأقل، قلب امرأة واحدة... امرأة ليست ككل النساء.
وهنا تظهر هي، ولّادة بنت المستكفي. لم تكن أميرة بالاسم فقط، بل كانت تحمل في عينيها إرث الخلفاء، وفي شفتيها جرأة لم تعهدها نساء عصرها. بعد نكبة أبيها وسقوط عرشه، خلعت ولّادة حجاب التقاليد الذي فرضه عليها مولدها، وارتدت حجابًا من نور الأدب والظرف والجمال. جعلت من مجلسها قبلة للشعراء، ومحجًا للأدباء. كانت شمسًا تدور في فلكها كواكب الإبداع، وكلهم يطمع في شعاع من دفئها.
والتقيا.
لم يكن لقاءً عاديًا. كان أشبه بتصادم نجمين في سماء قرطبة، فانبثق عن تصادمهما ضوءٌ بهر الأبصار وألهب القلوب. رآها ابن زيدون، فلم يرَ أميرة، بل رأى قصيدته التي لم تُكتب بعد. ورأته هي، فلم ترَ شاعرًا، بل رأت الرجل الذي تستطيع أن تخاطبه بلغة الروح والبوح، لا بلغة الألقاب والمراسم.
اشتعلت بينهما جذوة حب لم تشهد أزقة قرطبة مثلها. حبٌّ وُقوده الشعر، وسقياه اللقاءات المسروقة تحت جنح الظلام. كانت كلماتهما هي رسول الشوق، فتبعث إليه همسها في رقعة من حرير:
"ترقب إذا جن الظلام زيارتي ... فإني رأيت الليل أكتم للسر"
فيرد عليها بقصائد تذوب رقةً وشوقًا. لم تكن علاقتهما مجرد عشق وغرام، بل كانت مبارزة أدبية، وتنافسًا في الجمال، وانسجامًا بين عقيلن متوقدين وقلبين هائمين. كانت ولّادة، بجرأتها المعهودة، لا تخفي تيهها ودلالها، بل تعلنه على الملأ كأنها تقول للعالم إنها خلقت للمعالي، وللحب الذي يليق بالمعالي:
"أنا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وأتيه تيها"
لكن سماء الحب الصافية لا تبقى بلا غيوم، خاصة في زمن الطوائف. كان هناك من يراقب هذا العشق بعين الحسد والغيرة. الوزير أبو عامر بن عبدوس، رجل آخر من وجهاء قرطبة، كان قلبه معلقًا بولّادة، يسعى بماله وجاهه ليسترق لحظة من اهتمامها، لكن قلبها كان قد أُغلق على حب ابن زيدون.
والسياسة، تلك اللعبة القذرة التي لا ترحم حبًا ولا تعترف بوفاء، ألقت بظلالها القاتمة على الحبيبين. وشاية من حاسد، أو نزوة من حاكم، كانت كفيلة بأن تهوي بالمرء من قمة المجد إلى غياهب السجون. وهكذا كان. وجد ابن زيدون نفسه، بأمر من أبي الوليد بن جهور، خلف قضبان باردة، لا يرى من الدنيا إلا قطعة سماء صغيرة، ولا يسمع إلا صدى أناته وهو يستعطف الحاكم بقصائد ورسائل هي درر من الأدب، لكنها لم تلين قلبًا قد تحجر.
في عتمة السجن، لم يكن يؤلمه قيد الحديد بقدر ما كان يؤلمه قيد الشوق والخوف من الفراق. ماذا تفعل ولّادة الآن؟ هل لا يزال طيفه يزورها في وحدتها؟ أم أن غيابه الطويل قد فتح الباب لمنافسه اللدود، ابن عبدوس؟
وكما يليق ببطل رواية، لم يستسلم ابن زيدون لمصيره. في ليلة حالكة، تمكن من الهرب، لم يلوِ على شيء، تاركًا خلفه قرطبة، مدينة حبه وشقائه، قاصدًا إشبيلية وحاكمها المعتضد بن عباد. هناك، استُقبل بحفاوة تليق بموهبته، وتولى الوزارة، ونال السلطة والجاه. لقد امتلك كل شيء... إلا ولّادة.
وصلت إليه الأخبار من قرطبة كطعنات الخناجر. ولّادة، حبيبته، التي كانت لياليه وأيامه، قد مالت إلى ابن عبدوس. هل كان ذلك حبًا حقيقيًا أم مجرد أنس في وحشة الفراق؟ لا أحد يدري. لكن في قلب ابن زيدون الجريح، كان ذلك خيانة لا تغتفر.
ومن المنفى الإشبيلي، ومن قمة سلطته ووحدته، انفجر بركان الألم والإبداع. كتب رسالته الهجائية الشهيرة على لسان ولّادة، يسخر فيها من غريمه ابن عبدوس، ويجلده بسياط الكلمات اللاذعة، فتناقلها الناس وحفظوها. ثم نظم قصيدته "النونية" الخالدة، التي لم تكن قصيدة، بل كانت تاريخًا كاملًا لعشقه، ومرثية لأيامه الخوالي، وصرخة شوق أبدي:
"أضحى التنائي بديلًا من تدانينا ... وناب عن طيب لقيانا تجافينا"
كان يقرأ كل بيت فيها وكأنه يمزق قطعة من روحه. كان يرى طيفها في كل كلمة، ويسترجع عبيرها مع كل قافية. كيف تحولت تلك الليالي البيضاء إلى سواد دامس؟ وكيف جفت أغصان الأنس التي كانا يقطفان منها ثمار الهوى؟
"بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا"
وهكذا، انتهت القصة على الأرض، بين أسوار القصور وفي دواوين الملوك. لكنها لم تنتهِ في سجل الخلود. بقيت قصة ابن زيدون وولادة شاهدة على أن أعظم قصص الحب هي تلك التي يكتبها الفراق بمداد من الدمع، وتلك التي يحفظها الشعر من غدر الزمان. قصة أميرة جريئة، وشاعر عبقري، وحبٌّ ولد في زمن الفتنة وعاش في القصائد ليبقى خالدًا إلى الأبد.