حجاب الشعر .. قصة

sinantec
المؤلف sinantec
تاريخ النشر
آخر تحديث


كانت شمس بغداد في منتصف النهار حارقة، تلقي بلهيبها على أسوار المدينة وقصورها. في مثل هذا الوقت، يخلد الناس إلى قيلولة هادئة، حتى أمير المؤمنين نفسه. لكن الرشيد، الذي ملّ رتابة العرش، قرر أن يكسر روتين يومه. قام من مجلسه، ومشى على غير هدى في أجنحة قصره الداخلية، تلك العوالم السرية التي لا تطأها قدم رجل سواه.

قادته خطاه إلى مقصورة جاريته الفاتنة "الخيزران". دخل على غفلة منها، دون إذن أو استئذان، ليجد نفسه أمام مشهدٍ حبس أنفاسه.

كانت الخيزران في وسط غرفتها تغتسل. البخار الدافئ يلف المكان بهالة حالمة، وقطرات الماء تتلألأ على بشرتها كحبات الندى على بتلات الياسمين. لم تكن ترتدي شيئًا سوى شعرها. شعرٌ أسود كليل بغداد، طويلٌ وفير، ينسدل على ظهرها وكتفيها كشلالٍ من الظلام السائل.

فلما رأته، شهقت شهقة مكتومة. لم تصرخ، لم تجزع، ولم تبحث عن رداء تستر به جسدها. في لحظة واحدة، بحركة غريزية تنم عن حياء فطري وذكاءٍ وقّاد، انحنت قليلًا إلى الأمام، وجمعت خصلات شعرها الكثيفة بين يديها، ثم نثرتها حول جسدها، فانسدل الشعر من كل جانب، وصار لها حجابًا طبيعيًا لم يترك لعين الخليفة شيئًا تراه، سوى ظلمة شعرها الحالك الذي غطى بياض جسدها الناصع.

وقف الرشيد مذهولاً. لم يأسر قلبه جمال جسدها الذي لمحه، بل أسرته روعة فعلها. تلك الحركة السريعة، وذلك الستر الفوري، كانا أبلغ من ألف قصيدة في الحياء والوقار. استدار على عقبيه بهدوء، وعاد إلى مجلسه، والمشهد لا يغادر خياله.

قال لمن حوله: "من بالباب من الشعراء؟"

قيل له: "بشار، وأبو نواس".

قال: "ليدخلا معًا".

عندما وقفا أمامه، قال الرشيد بنبرةٍ تحمل لغزًا: "ليقل كل منكما أبياتًا توافق ما في نفسي الآن".

كان تحديًا صعبًا. كيف لشعراء أن ينفذوا إلى ما يدور في عقل خليفة؟ بدأ بشار، الشاعر الضرير الذي يرى بقلبه، فألقى قصيدة غزلية رقيقة، تحدث فيها عن الحب والهجران، كلامٌ جميل، لكنه كان بعيدًا كل البعد عن تلك الصورة التي حُفرت في ذهن الرشيد. فقال له الخليفة: "أحسنت، ولكنك لم تصب ما في نفسي".

ثم التفت إلى أبي نواس. ساد الصمت. أطرق الشاعر للحظات، كأنه يستمع إلى وحيٍ خفي، ثم رفع رأسه، وبدأ يغزل من الكلمات ستارًا يصف به ما حدث بدقة تكاد تكون خارقة:

نَضَتْ عنها القميصَ لصبِّ ماءٍ ... فوَرَّدَ خدَّها فرطُ الحياءِ

شعر الرشيد بالقشعريرة تسري في جسده. كيف عرف؟

وقابلتِ الهواءَ، وقد تعرَّتْ ... بمعتدلٍ أرقَّ من الهواءِ

وصف الشاعر جسدها العاري وهو يواجه الهواء، ثم وصف يدها وهي تمتد إلى الماء، كأن روحه كانت تحلق في الغرفة وتشاهد كل شيء. ثم جاءت الأبيات التي كانت بمثابة الضربة القاضية:

رأتْ شخصَ الرقيبِ على التداني ... فأسبلتِ الظلامَ على الضياءِ

فغابَ الصبحُ منها تحتَ ليلٍ ... وظلَّ الماءُ يقطرُ فوقَ ماءِ

يا لله! "أسبلت الظلام على الضياء"، "غاب الصبح منها تحت ليل". أي عبقرية هذه التي تجعل الشعر حجابًا من ليلٍ يستر نهار الجسد؟! "وظل الماء يقطر فوق ماء"، قطرات ماء الغسل على ماء جسدها النقي. إنه ليس شعرًا، بل تصوير حيّ، بل كشف للمستور.

عندما أنهى أبو نواس قصيدته، لم يقل الرشيد "أحسنت". بل صرخ بوجهٍ يجمع بين الإعجاب والرعب المصطنع: "سيفًا ونطعًا!".

ارتجف أبو نواس وقال: "ولمَ يا أمير المؤمنين؟ فداك أبي وأمي!".

قال الرشيد وعيناه تقدحان شررًا مازحًا: "أكنتَ معنا في الغرفة؟ أكنت مختبئًا تراقب؟!".

فقال الشاعر بصدقٍ أو بادعاء صدق: "لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنه خاطرٌ جال في بالي، فصاغته القريحة شعرًا".

ضحك الرشيد ضحكة مجلجلة، وقال: "اذهب، فخاطرك هذا يستحق الذهب". وأمر له بآلاف الدراهم، وهو يعلم في قرارة نفسه أن هذا الشاعر لا يملك قريحةً كغيره، بل يملك عينًا ثالثة، ترى ما تخفيه الصدور، وما تستره الجدران.

تعليقات

عدد التعليقات : 0