الجَزَرَة التي أثمرت ذهبًا

sinantec
المؤلف sinantec
تاريخ النشر
آخر تحديث

الجَزَرَة التي أثمرت ذهبًا


دعني أسكب لك من حبر قلمي حكايةً عتيقة، وُلدت من رحم أزقة البصرة الضيقة، حيث يمتزج عبق التوابل برائحة الورق العتيق. هذه ليست مجرد قصة، بل هي رحلةٌ سترى فيها كيف يمكن للحرف أن يبني قصورًا، وكيف للصبر أن يحوّل الجَزَر إلى ذهب.

الجَزَرَة التي أثمرت ذهبًا

كانت شمس البصرة اللاهبة ترسم ظلالاً طويلة على الجدران الطينية، وكنتُ أنا، عبد الملك الأصمعي، شابًا يافعًا، لا أملك من الدنيا إلا عقلاً متقداً، وروحًا ظمأى للمعرفة، وأسمالاً بالية بالكاد تستر جسدي النحيل. كان كل صباح، مع خيوط الفجر الأولى، يبدأ طقسي المقدس. أخطو خارج بيتي المتواضع، فتلفحني نسمات الصباح، ويأتيني صوتٌ أجش من دكان البقالة على ناصية الزقاق.

صاحبه، رجلٌ غليظ الملامح، امتلأت راحتاه بخشونة السنين، وعيناه ببريقٍ ساخر، كان يرمقني كل يوم بنفس النظرة وهو يمسح يديه في مئزره المتسخ.

"إلى أين يا فتى؟" يسأل، وفي صوته نبرةٌ لا تخطئها الأذن من الشفقة الممزوجة بالازدراء.

أجيبه والعزم يملأ صدري: "إلى مجلس فلان المحدّث، أطلبُ علمًا."

وعندما أعود في المساء، وقد خارت قواي، ولكن عقلي يضج بالحياة، يعترض طريقي مرة أخرى. "ومن أين أتيت؟"

فأقول بنفس الفخر: "من عند فلان الإخباري، أو ذاك اللغوي."

كان يهز رأسه ببطء، ثم ينفث الهواء من صدره قائلاً وصوته كصرير باب قديم: "يا هذا، اسمع مني نصيحة لوجه الله. أنت شاب، والحياة فرص. دع عنك هذا الهراء الذي لا يطعم خبزًا، وهذه الكتب التي لن تمنحك إلا الغبار والجوع. ائتني بها جميعها لأوقد بها تنوري، فواللهِ، لو جئتني بكل ما تملك من هذه الأوراق وطلبتَ بها جزرةً واحدة تسد بها رمقك، ما أعطيتك!"

كانت كلماته كسياط تلهب روحي المثقلة أصلاً بضيق الحال. تتسلل إلى قلبي كالسم، فتحيل عزمي إلى شك، ويقيني إلى حيرة. حتى ضاق صدري بتهكمه اليومي، فصرتُ أتسلل من بيتي قبل أن يستيقظ، وأعود في جوف الليل بعد أن يغلق دكانه، كاللص في داره.

لكن الفقر، يا صاحبي، وحشٌ لا يعرف الليل أو النهار. أكلت أيامه ثيابي حتى صارت خرقًا، وبِعتُ آخر ما أملك منها لأشتري كسرة خبز. طال شعري، وتراكم الغبار على بدني، وبتُ شبحًا يسير في ظلمات البصرة، لا يراني أحد، ولا أكاد أرى نفسي.

وفي ليلةٍ حالكة، بينما كنت أجلس في حجرتي الفارغة، والجوع يقرص أحشائي، متحيرًا لا أعرف أي مصير ينتظرني في الصباح، طُرق الباب طرقًا خفيفًا. فتحتُ الباب لأرى خادمًا يرتدي أفخر الثياب، يقف على عتبتي الرثة.

قال بصوتٍ مهذب: "الأمير محمد بن سليمان الهاشمي يطلبك."

نظرتُ إلى هيئتي المزرية، وضحكتُ ضحكةً يائسة. "وماذا يريد الأمير من رجلٍ بلغ به الفقر ما ترى؟ عد إليه وقل له إن الأصمعي قد مات."

نظر الخادم إلى حالي بعين الشفقة، ثم عاد من حيث أتى. لكنه لم يلبث أن رجع، ومعه خدمٌ آخرون يحملون أطباقًا تفوح منها رائحة الطعام الشهي، وتخوتًا من ثياب الحرير، وكيسًا ثقيلاً رنّت فيه الدنانير رنينًا أعذب من كل شعر سمعته في حياتي.

قال الخادم: "أمرني الأمير أن أدخلك الحمام، وأن ألبسك من هذه الثياب، وأطعمك، وأبخّرك، حتى تعود إليك روحك، ثم أحملك إليه."

شعرتُ كأنني في حلم. انفرجت السماء بعد عاصفة طويلة. فعلتُ ما أمرني به، ومع كل قطرة ماء كانت تغسل جسدي، كنتُ أشعر بأنها تغسل هموم سنين عجاف. ارتديت الثياب الجديدة، فتبدل حالي، وتعطّرت، فأحسستُ أنني أولد من جديد.

عندما دخلت على الأمير، نهض لملاقاتي، وأجلسني بجانبه. قال بصوتٍ دافئ: "يا عبد الملك، لقد بلغنا صيت علمك وصبرك، وقد اخترتك لمهمةٍ جليلة. ستنطلق إلى بغداد، لتكون مؤدبًا لابن أمير المؤمنين هارون الرشيد."

بغداد! الخليفة! ابنه! دارت بي الدنيا. شكرته ودعوت له، ثم عدت إلى بيتي، الذي لم يعد يبدو رثًا كما كان. جمعت أعز كتبي، وتركت الباقي في عهدة عجوز من أهلنا، وانطلقت إلى عاصمة الدنيا.

في بلاط الرشيد، وقفتُ والرهبة تملأ قلبي. قال لي الخليفة بوقار: "أنت الأصمعي؟ اعلم يا عبد الملك، أن ولد الرجل مهجة قلبه، وها أنا أسلمك ابني محمدًا، أمانةً في عنقك. علّمه ما ينفعه، ولا تفسد عليه دينه، فلعله يكون للمسلمين إمامًا."

أخذتُ الأمير الصغير، وانقطعتُ لتعليمه في دارٍ فسيحة خُصصت لنا. كانت الأموال تتدفق عليّ، عشرة آلاف درهم كل شهر، لكن كنزي الحقيقي كان رؤية ذلك العقل الصغير يتفتق على يدي. قرأ القرآن، وحفظ الشعر، وروى أيام العرب، وتفقه في الدين.

وعندما استعرضه الرشيد بعد حين، أشرق وجهه فخرًا وإعجابًا. أمرني أن أُعدّ له خطبة الجمعة ليصلي بالناس. فعلتُ، فوقف الأمير الصغير على المنبر، وخطب في الناس بثقة وفصاحة، وأنا أقف في الصفوف، والدموع تترقرق في عيني.

منذ ذلك اليوم، فُتحت لي أبواب المجد والثروة. أصبحتُ من المقربين، وجاءتني الهدايا والعطايا من كل صوب، حتى جمعتُ مالاً عظيمًا، اشتريتُ به الضياع والعقار، وبنيتُ لنفسي دارًا في البصرة، لم ترَ المدينة مثلها فخامة.

وعندما عدتُ إليها بعد سنين طويلة، خرج أهلها لاستقبالي. كنت أرى في عيونهم الإعجاب والدهشة. وبينما كنت أتأمل الوجوه، لمحته. كان يقف بعيدًا في زحام الناس، بنفس الجبة القصيرة والعمامة المتسخة. إنه البقّال.

شقّ الصفوف حتى وصل إليّ، وصاح بصوته الأجش الذي لم يتغير: "عبد الملك!"

نادى اسمي مجردًا، كما كان يفعل الرشيد. ضحكتُ من أعماق قلبي، ليس شماتةً، بل دهشةً من تقلبات الأيام. اقتربت منه، ونظرت في عينيه الساخرتين، وقلت بهدوء:

"يا هذا، أتذكر نصيحتك؟ أتذكر كتب الهراء تلك؟ قد واللهِ جاءتني بما هو خيرٌ ألف مرة من جزرة!"

تركته واقفًا في مكانه، وقد عقدت الدهشة لسانه، وأكملتُ طريقي إلى داري الجديدة، وأنا أعلم يقينًا أن الكلمة التي تُزرع في العقل، قد لا تُطعم خبزًا في يومها، لكنها حتمًا ستُثمر جناتٍ من الكرامة والمجد في الغد.

تعليقات

عدد التعليقات : 0