في زمنٍ كانت فيه أصوات السيوف هي الأعلى، وحين كان غبار المعارك يحجب شمس الصحراء، كان هناك همسٌ آخر، همس شفاء ورحمة، ينبعث من أنامل امرأةٍ جعلت من العلم إيمانًا، ومن الطب رسالة. لم تكن مجرد امرأة، بل كانت جيشًا بأكمله في هيئة إنسان. إنها رفيدة الأسلمية، الاسم الذي نقشه التاريخ بحروف من نور كأول طبيبة في فجر الإسلام.
قبل أن يصدح صوت بلال بالآذان في سماء يثرب، كان اسم "كُعيبة بنت سعد" يتردد في أنحاء الحجاز. لم تكن أميرة أو شاعرة، بل كانت يدًا حانية تبرئ الأسقام. في خيمتها البسيطة، كانت أسرار الأعشاب تتكشف بين يديها، فتمزج هذا بذاك، وتصنع دواءً لجرح غائر، أو بلسمًا لحمى موهنة. ذاع صيتها كالشذى في رياح الصحراء، وقصدها القاصي والداني، وهي لم تتجاوز ربيعها الخامس عشر. لم تكن ساحرة، بل كانت عالمة بفطرتها، قارئة نهمة في زمن قلّ فيه القراء، جمعت بين ثروة المال وثروة العلم، وزادتها الأيام حكمة ومكانة.
وعندما أشرقت شمس الإسلام على المدينة، لم تجد في قلب رفيدة إلا أرضًا خصبة. هي التي تدرك معنى إحياء النفس، كيف لا تؤمن بدينٍ جاء ليحيي الأرواح والقلوب؟ أسلمت، ووضعت كل علمها ومالها ومكانتها في خدمة هذه الدعوة الجديدة التي لامست فطرتها السليمة.
وجاء اليوم الموعود، يوم "الخندق". لم تكن المدينة مجرد مدينة، بل كانت قلعة محاصرة. رياح الشتاء الباردة تلفح الوجوه، وصوت حفر الخندق يمتزج بتكبيرات الصحابة. الخوف يتربص في كل زاوية، والموت يحوم فوق الرؤوس. في هذا الجو المشحون بالترقب والبارود، تقدمت رفيدة بخطى ثابتة إلى رسول الله، لم تعرض سيفًا أو رمحًا، بل عرضت ما هو أثمن: علمها.
فهم النبي الكريم ﷺ بعمق بصيرته ما تحتاجه المعركة. لم يكن النصر بالسيوف وحدها، بل بالقلوب التي تساند المقاتلين. فأمر أمره التاريخي: "أقيموا لها خيمة في المسجد، تداوي فيها الجرحى".
لم تكن تلك مجرد خيمة من قماش، بل كانت قلعة من رحمة، وأول مستشفى ميداني في تاريخ الإسلام. أصبحت خيمة رفيدة منارة أمل وسط عتمة الحرب. كان يأتـيها الأبطال مضرجين بدمائهم، فتمسح عنهم جراحهم بيد، وتزرع في قلوبهم الأمل باليد الأخرى. كانت خيمتها ملاذًا لكل مصاب، لا تسأل عن أجره، بل تنفق من مالها الخاص، وتعتبر خدمة كل جريح قربانًا تتقرب به إلى الله.
ثم جاءت اللحظة التي اختبر فيها إيمانها وعلمها أعظم اختبار. سعد بن معاذ، سيد الأوس، ذاك الجبل الشامخ الذي اهتز لموته عرش الرحمن، يُحمل إلى المعسكر وسهم غادر قد استقر في وريده "الأكحل". الدماء تنزف بغزارة، والوجوه شاحبة. علا صوت النبي الحنون بالأمر الواثق: "اجعلوه في خيمة رفيدة التي في المسجد، فإني أعوده من قريب".
يا له من تكليف! ويا له من شرف! حياة سيد من سادات الأنصار بين يديها. تحولت رفيدة إلى شعلة من النشاط والتركيز. طهرت الجرح، وأوقفت النزيف بمهارة عجيبة، وراحت تلازمه ليل نهار. كانت عيناها لا تفارقان وجهه الشاحب، ويداها لا تكفّان عن رعايته، ولسانها لا يفتر عن الدعاء. كانت حالته تتأرجح بين الأمل واليأس، يومًا يتحسن، ويومًا يتدهور، لكنها لم تفقد الأمل قط، وظلت تقاتل من أجل حياته كما يقاتل الفرسان في الميدان.
ومع أنها بذلت كل ما في وسعها، إلا أن أمر الله كان نافذًا. بعد شهر من الرعاية الفائقة، استجابت روح سعد لنداء بارئها، وارتقى إلى العلا شهيدًا. لم يكن موت سعد فشلًا لرفيدة، بل كان شهادة على إنسانيتها وتفانيها، وقدر الله الذي لا راد له.
لم يتوقف عطاؤها عند الخندق. ففي خيبر، كانت في الصفوف الخلفية، تضمد الجراح، وتسقي العطشى، وتشد من أزر المقاتلين. وعندما أتى النصر، وحان وقت تقسيم الغنائم، حدث ما لم يكن في الحسبان. كرمها رسول الله ﷺ تكريمًا فريدًا، لم يمنحها كلمات الشكر فحسب، بل قسم لها سهمًا من الغنيمة، سهم فارسٍ مقاتل. بهذا الفعل، أعلن النبي أن يد الطبيب التي تشفي لا تقل شأنًا عن يد الفارس الذي يقاتل، وأن بناء الأمة يكون بالرحمة والقوة معًا.
لم تكن رفيدة طبيبة فحسب، بل كانت مدرسة متنقلة. فتحت خيمتها لنساء الصحابة، تعلمهن أصول التمريض، وأسرار صناعة الدواء، وكيفية تجبير الكسور. لقد أسست لجيش من الممرضات والطبيبات اللاتي حملن الراية من بعدها في فتوحات الشام وفارس.
وهكذا، عاشت رفيدة الأسلمية، امرأة حولت العلم إلى عبادة، والرحمة إلى جهاد. قصة تروى لكل الأجيال، عن كيف يمكن لامرأة واحدة، بإيمانها وعلمها، أن تكون أمة في رجل، وأن تبني بيديها صرحًا من الرحمة وسط نيران الحرب.
رضي الله عنها وأرضاها، وجمعنا بها في جنات النعيم.