أمير الرَّكوة
في صحراء الزمان الممتدة، حيث تضيع الأنساب وتُطوى الممالك، سار رجلٌ لا يحمل من مُلك أجداده سوى ظل اسمٍ مهيب ورَكوة ماء بالية. كان الوليد، سليل هشام بن عبد الملك، آخر شرارة من نار بني أمية التي خبت في الأندلس. هرب من بطش المنصور بن أبي عامر، قاطعًا البحر والصحراء، لاجئًا في مصر التي كانت ترزح تحت حكم خليفة أغرب من الخيال، الحاكم بأمر الله.
لم يكن الوليد أميرًا في منفاه، بل كان "أبو ركوة"، اللقب الذي التصق به من قربة الماء الجلدية الصغيرة التي لازمته كظله، متخفيًا في زي الصوفية، أولئك الذين يطلبون الحقيقة لا العروش. لكن تحت عباءة الزهد، كان يغلي دم الخلافة. سمع الحديث في مصر، وطاف بمكة، وارتحل إلى اليمن، وعبر الشام. وفي كل أرض يطؤها، كانت عيناه تبحثان عن القلوب التي ما زال فيها ولاء للأمويين، والسيوف التي تحن إلى بريق المجد القديم.
استقر به المقام أخيرًا بين قبائل العرب في مصر، معلمًا للصبيان، يرتدي ثوب التقشف والعبادة، وينطق بكلماتٍ فيها حكمة الماضي وبصيرة المستقبل. شيئًا فشيئًا، تحول المعلم المتجول إلى قديس في عيونهم. نسج حول نفسه هالة من الغموض والورع، حتى خضعت له القلوب قبل الرقاب. وحين شعر أن الأرض قد مُهِّدت، كشف عن سِرِّه. همس لهم باسمه، وذكّرهم بنسبه، وأخبرهم أنه هو الوريث المنتظر، الأمل الذي سيعيد الحق إلى نصابه.
كانت كلماته كالمطر على أرض عطشى. قبيلة بني قرة، التي أذاقها الحاكم مر العذاب، وقتل رجالها وسجن أعيانها، وجدت فيه منقذها. وفي تلك اللحظة، تحالف المظلومون. تصالحت بنو قرة مع أعدائها من قبيلة زناتة، وتوحدوا تحت راية واحدة ضد عدو مشترك: طاغية القاهرة.
في ليلة مقمرة، اجتمع شيوخ القبائل وبايعوا أبا ركوة. لم يعد "المعلم" أو "الزاهد"، بل أصبح "أمير المؤمنين". ولقبوه بالثائر بأمر الله، المنتصر من أعداء الله. دخل مدينة برقة في موكب مهيب، ففتحت له خزائنها، وسكت الدراهم والدنانير باسمه وألقابه. ستة عشر ألف مقاتل التفوا حوله، قلوبهم تشتعل بالحماسة، وسيوفهم متعطشة للثأر.
وصل الخبر إلى القاهرة، فهز عرش الحاكم بأمر الله. هذا الخليفة الذي كان يقتل قادته لأهون سبب، ويستبيح أموال الناس بلمحة بصر، شعر بالخطر يزحف نحوه من الصحراء. اهتز ملكه، فأدرك فجأة فداحة طغيانه. وفي محاولة يائسة لاستعادة ولاء شعبه، بدأ يظهر اللين، ويكف عن الأذى، ويعيد الحقوق لأصحابها. لكن الأوان كان قد فات.
أرسل الحاكم جيشًا بقيادة قائده التركي "ينال الطويل". تقابل الجيشان، فكانت صدمة للحاكم. جيش الخلافة العظيم سُحق أمام رجال الصحراء، وقُتل ينال الطويل. ذاع صيت أبي ركوة في كل مكان، وأصبحت هيبته تسبقه. أقام في برقة، ومنها انطلقت سراياه تجوب صعيد مصر، قاب قوسين أو أدنى من قلب الدولة الفاطمية.
جن جنون الحاكم. سقط في يده، وشعر أن نهايته قد اقتربت. في قصره، كان يسمع همس الخيانة. قادته وجنوده كانوا يفرحون بانتصارات أبي ركوة، وبدأت الرسائل السرية تتدفق من القاهرة إلى معسكر الثائر، تستدعيه للقدوم. كان من بين الذين كتبوا إليه الحسين بن جوهر، قائد القواد، الرجل الأقوى في جيش الحاكم.
عندها، قرر أبو ركوة أن ساعة الحسم قد حانت. زحف بجيشه من برقة نحو مصر. لم يعد الحاكم ينام. جمع كل قادته، واستدعى جيوش الشام، وفتح خزائنه، وفرق الأموال والعتاد بلا حساب. حشد جيشًا قوامه اثنا عشر ألف فارس وراجل، بقيادة رجل داهية هو الفضل بن عبد الله.
التقى الجمعان في معارك طاحنة، دارت فيها الدائرة على أبي ركوة. خبرة الفضل ودهائه كانت لها الكلمة العليا. وبعد كرٍ وفرٍ، هُزم جيش الثائر، ووقع أبو ركوة نفسه في الأسر.
أمر الفضل بمعاملة الأسير بما يليق بنسبه، حتى دخل به مصر. وهناك، تغير كل شيء. حُمل أمير الركوة على جمل، وطيف به في شوارع القاهرة مكبلاً، في مشهد مهين يمحو كل أمجاده. ثم، عند أسوار المدينة، انتهت أسطورته. قُتل وصلب، ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه تحدي الحاكم.
عاد الفضل منتصرًا، فاستقبله الحاكم استقبال الأبطال، وأغدق عليه الأموال والإقطاعات. ثم، مرض الفضل، فعاده الحاكم في بيته مرتين، مظهرًا له كل الود والتقدير. لكن ما إن تعافى القائد المنتصر، حتى كشف الخليفة عن وجهه الحقيقي. في ليلة ظلماء، قُبض على الفضل، وقُتل شر قتلة. فقد كان الحاكم بأمر الله يخشى ظل الرجل الذي أنقذ عرشه، أكثر مما كان يخشى الثائر الذي كاد أن يسلبه إياه. وهكذا، طويت صفحة أبي ركوة، وبقيت حكاية الطغيان، الذي يلتهم أبناءه ومنقذيه على حد سواء.