ظل البحر
في الأفق، حيث تذوب زرقة بحر إيجة في بياض الشمس الحارقة، لم تكن تلك النقاط السوداء مجرد سفن، بل كانت نذير شؤم قادم من الشرق. على رأس هذا الأسطول، المكوّن من أربع وخمسين شراعًا تضربها الريح كأجنحة غربان عملاقة، وقف رجلٌ يحمل في عينيه ذاكرة بحرين، وفي قلبه ولاءً لدينين، وفي اسمه قصة خيانة ومجد. عرفه البيزنطيون باسم "ليو الطرابلسي"، الشيطان الذي ارتد عن دينه وأرضه. أما رجاله، فكانوا يهابونه ويبجلونه تحت اسم "رشيق الوردامي"، أمير البحر، والذكي كالثعلب، السريع كالعقاب.لكن قبل أن يصبح "رشيق"، وقبل أن يُلقب بـ"غلام زرافة"، كان مجرد صبي يوناني، وُلد على شواطئ أنطاليا المشمسة، حيث كان يَعرف لحن الأمواج كما يعرف اسمه. لم يكن يعلم أن البحر الذي أحبه سيحمله يومًا إلى مصيره كأسير. في غارة عربية خاطفة، انتُزع من عالمه، وأُخذ إلى طرابلس الشام، وهناك، في قلب العالم الإسلامي، مات الصبي اليوناني ليولد من جديد. اعتنق الإسلام، ليس كخاضع، بل كمن وجد ضالته. لم يعد أسيرًا، بل أصبح سيدًا للبحر الذي أسره.
صعد نجمه بسرعة مذهلة. خبرته كبحار بيزنطي صقلها طموحه الذي لا يلين. وصفه المؤرخ المسعودي بأنه "من أعظم ملاحي زمانه"، ولم يكن في ذلك مبالغة. فمن نائب لحاكم طرسوس إلى أمير بحر طرابلس، أصبح اسم "لاوي أبو الحارث" مرادفًا للرعب في كل الموانئ البيزنطية.
في عام 904م، أشرقت شمس الخلافة العباسية على طموح جديد: كسر شوكة الإمبراطورية البيزنطية وإذلالها. تم استدعاء رشيق، ومعه قرينه في الارتداد، داميان الطرسوسي. كانا سيفين يونانيين، شُحذا في أتون الإسلام، وموجهين الآن نحو قلب وطنهما الأم.
انطلق الأسطول الجبار، وجهته المعلنة كانت القسطنطينية، جوهرة العالم، المدينة المحروسة التي لا تقهر. كان هدير طبول الحرب على متن السفن السورية والمصرية يسمع صداه في قلب الإمبراطور ليو السادس الحكيم. أبحر رشيق بجرأة لا مثيل لها، مخترقًا مضيق الدردنيل كما يخترق الخنجر الحرير. في أبيودوس، وقف الأسطول البيزنطي بقيادة يوستاثيوس أرجيروس متجمدًا في مكانه، مشلولًا بالخوف من سمعة هذا القائد الأسطوري.
غضب الإمبراطور، وعزل أرجيروس الخائف، وعين هيميريوس الشجاع مكانه. لكن رشيق كان قد قرأ خصمه بالفعل. لقد كانت القسطنطينية مجرد طُعم، مجرد خدعة عبقرية. فبينما كان هيميريوس يجمع سفنه للدفاع عن العاصمة، قام رشيق بمناورة خاطفة، واستدار بأسطوله غربًا، كصقر يغير اتجاهه في منتصف انقضاضه، ليختار فريسة أسهل وأغنى.
كانت وجهته الجديدة هي ثيسالونيكا، عروس الشمال، ثاني أكبر مدن الإمبراطورية وأكثرها ثراءً. لم تكن المدينة مستعدة لهجوم بهذا الحجم. كانت أسوارها قوية، لكن قلوب حكامها كانت أضعف.
لمدة ثلاثة أيام، تحولت السماء فوق ثيسالونيكا إلى جحيم. دقت نواقيس الكنائس في ذعر، بينما كانت المنجنيقات الإسلامية تقذف الموت فوق الأسوار. كان رشيق يدير الحصار بدقة جراح، مستغلًا كل نقطة ضعف، باثًا الرعب في قلوب المدافعين. وفي فجر اليوم الرابع، في الحادي والثلاثين من يوليو، انهار الدفاع.
صرخة "الله أكبر" اهتزت لها أركان المدينة، وتدفق رجال رشيق عبر الأسوار المحطمة كطوفان لا يمكن صده. ما تلى ذلك لم يكن معركة، بل كان حصادًا مريرًا. لمدة أسبوع، نُهبت المدينة بشكل لم تشهده من قبل. ذُهبت الكنائس، وكُنوز القصور، وثروات التجار، حُملت كلها إلى السفن الراسية في الميناء، التي مالت على جوانبها من ثقل الغنائم. لكن الأثمن من الذهب والفضة كان الأسرى. آلاف الرجال والنساء والأطفال الأصحاء، سُيقوا إلى السفن ليُباعوا كعبيد في أسواق الشرق.
وقف رشيق على سطح سفينته القيادية، ينظر إلى المدينة التي كانت يومًا منارة للثقافة الأرثوذكسية وهي تحترق. دخان أسود كثيف حجب شمس الظهيرة، ممزوجًا بصرخات اليائسين. لم يكن في عينيه ندم، بل بريق الانتصار البارد. لقد عاد إلى أرضه القديمة، ليس كابن ضال، بل كقاضٍ ومنفذ حكم. لقد محا الصبي اليوناني من ذاكرته، ولم يبقَ سوى أمير البحر، "غلام زرافة"، الظل الذي ألقى الرعب في قلب الإمبراطورية، والأسطورة التي ستروى لأجيال في مجالس الخلفاء. أبحر الأسطول مبتعدًا، تاركًا وراءه مدينة جريحة، وشبح رجلٍ باع ماضيه ليشتري مجدًا خالدًا.